غادر المبعوث الأميركي الخاص، آموس هوكستين، تل أبيب يوم أمس الجمعة بعد عقد اجتماعات مع القادة الإسرائيليين لبحث المقترح الأميركي لوقف إطلاق النار في لبنان، دون أن يقدم أي تفاصيل حول نتائج المحادثات. وكان هوكستين قد زار بيروت يوم الثلاثاء الماضي، حيث استلم ملاحظات الجانب اللبناني بشأن المقترح، وأكد أن الأجواء كانت إيجابية، مما أثار تفاؤلاً حذراً في الأوساط اللبنانية. في الوقت نفسه، أعلن مسؤولون أميركيون وإسرائيليون عن تحقيق "تقدم كبير" نحو التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، لكن لا تزال بعض القضايا العالقة بحاجة إلى تسوية قبل إتمام الاتفاق.
تشير التقارير إلى أن إسرائيل تصر على البقاء في المناطق التي تشهد توغل بري إسرائيلي لمدة 60 يوماً بعد توقيع الهدنة، فيما يشدد الجانب اللبناني على ضرورة انسحاب فوري لإفساح المجال أمام الجيش اللبناني للانتشار في المناطق المحاذية للخط الأزرق والسماح للنازحين بالعودة الفورية إلى ديارهم. وفي تصريح سابق، أكد رئيس مجلس النواب نبيه بري أن الأهالي، حتى في حال تدمير قراهم بالكامل، سيعودون إلى أراضيهم لبناء حياتهم من جديد، مضيفاً أن ذلك يعكس إرادة الصمود في وجه العدوان الإسرائيلي. إلا أن الموقف الإسرائيلي يقتضي بانسحاب قواتها خلال 60 يوماً من إعلان وقف إطلاق النار والذي يُعد من أبرز القضايا الخلافية التي تعرقل التوصل إلى هدنة نهائية مع لبنان. لكن، ما هو سبب إصرار إسرائيل على هذا التأخير في الانسحاب؟
عند استرجاع أحداث الماضي، يُلاحظ أن انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000 شكّل لحظة فارقة في تاريخ الصراع. حيث انسحب الجيش الإسرائيلي وتدفق الآلاف من اللبنانيين إلى قراهم، وسط أجواء احتفالية ضخمة، ما عزز الرواية الوطنية التي أعلنت انتهاء "زمن الاحتلال" وأكدت قدرة المقاومة على دحر العدوان.
تكرر المشهد بعد حرب 2006، حيث عاد السكان سريعاً إلى المناطق التي تعرضت للدمار، معبرين عن صمودهم و استعدادهم لإعادة إعمار قراهم. هذان الحدثان لعبا دوراً محورياً في إدراك "وِجْدان الانتصار" اللبناني، الذي يرى في الانسحاب دليلاً على فشل إسرائيل في فرض سيطرتها أمام المقاومة وصمود الشعب اللبناني.
هذه العودة الفورية للسكان كانت بمثابة صورة رمزية لانتصار الشعب اللبناني والمقاومة، مما أثار قلقاً إسرائيلياً. إذ حرمت هذه الأحداث إسرائيل من بناء سردية خاصة بها، تسمح الإشارة إلى رواية "تحقيق الأهداف". لهذا السبب، تسعى إسرائيل الآن إلى فرض ترتيبات مختلفة عند الحديث عن انسحابات مستقبلية، بهدف منع تكرار هذه المشاهد التي تعزز من نجاح المقاومة اللبنانية في صد العدوان وتظهر إسرائيل الخاسر في الحرب.
في هذه الجولة، يبدو أن إسرائيل تحاول تشكيل صورة المنتصر عبر الإصرار على إعادة سكان جنوب لبنان تدريجياً تحت إشرافها، بدلاً من الانسحاب الفوري حيث يُفسر هزيمة في الداخل والخارج. هذا التوجه يحمل دلالات أعمق، إذ يهدف إلى التأثير على الرأي العام المحلي اللبناني والرأي الخارجي وتثبيت صورة جديدة للصراع، تُظهرها كطرف قوي ومنظم لا منسحب خاسر.