تداخلت عوامل كثيرة في موضوع ملاحقة حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، بين السياسي والشخصي والواقعي، وتعددت التساؤلات والاستفسارات عن الاسباب والدوافع التي اوصلت وضعية سلامة إلى هذا الانحدار، بعدما كان يصنف بالحاكم الناجح، والذي استطاع خلال تسلمه مهامه طوال العقود الثلاثة الماضية، تجاوز الكثير من الخضات المحلية والحروب الإسرائيلية التي تعرض لها لبنان والخضات، والأحداث التي تسبب بها تسلط حزب الله على الدولة ومؤسساتها، وارتكاباته الدموية ضد معارضيه السياسيين وغيرهم.
البعض يعتبر ان هذه الملاحقة سياسية بامتياز، وتأتي ضمن تصفية حسابات معينة، بالرغم من استنادها إلى تجاوزات قام بها سلامة، والدليل على ذلك حملة الشماته التي يقودها رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل وقاضية التيار غادة عون، فيما ينظر اليها البعض الآخر، بأنّها ناتجة عن سوء ادارة الشؤون النقدية، واخطاء متراكمة، وارتكابات غير قانونية، والاستيلاء على الأموال العامة بطرق ملتوية وغير مشروعة.
لا يمكن إنكار أن الانهيار المالي والاقتصادي الحاصل في لبنان، حصل نتيجة تراكمات عديدة، منها سوء الاداء السياسي والصدامات الداخلية، واغتيال الرموز والشخصيات السياسية، والزج بلبنان بسياسة المحاور، واستعداء الدول العربية الشقيقة والصديقة، ومصادرة نتائج الانتخابات النيابية والهيمنة على الحياة السياسية بالقوة، ما ادى حكما إلى تردي الوضع الاقتصادي والمالي، وتوجه الحكومات تباعاً، للاستدانة بمبالغ كبيرة من المصرف المركزي، لسد العجز بالموازنة والصرف على الدولة وعلى النهب المنظم لقطاع الكهرباء الذي تولاه رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل حصرا طوال أكثر من عشرة اعوام متواصلة.
ولكن يبقى سلامة مسؤولاً جزئيا عما حصل، باعتباره مسؤولا عن السياسية النقدية، وكان عليه دق ناقوس الخطر، قبل حدوث الانهيار ووقف قيام المصرف المركزي، تمويل الدولة او تحديد نسبة التمويل، بما يتلاءم مع الحفاظ على الاستقرار المالي والنقدي. ولكن هذا لم يحصل وادى تراكم استدانة الدولة من المصرف، ومن اموال المودعين خصوصا، وبتواطؤ مع اصحاب المصارف، بعد اغرائهم بفوائد مرتفعة إلى الانهيار الحاصل والمستمر، من دون وجود أي بوادر لوضع الحلول اللازمة له حتى اليوم.
لم يستطع سلامة وقف تمويل الدولة، كما فعل سلفه ادمون نعيم سابقا، لانه انغمس في السياسة حتى اذنيه، بعد وعود تلقاها من كبار السياسيين والنافذين المحليين والاقليميين بانتخابه رئيسا للجمهورية منذ العام الفين، ونسج على اثرها شبكة علاقات واسعة لهذه الغاية مع المحيطين بهم، وقدم تسهيلات مالية، وغض الطرف عن تجاوزات مكشوفة لهؤلاء، ادت الى تفليس بنك المدينة، واصبح بعد ذلك اسير هذه الرغبة الجامحة التي تدغدغ مشاعر اي شخصية مؤهلة للوصول للرئاسة. ولذلك حاول الموازنة بين استمرار تمويل الدولة من ودائع المواطنين الموضوعة بأمانة المصرف المركزي، للحفاظ على علاقاته الجيدة مع هؤلاء المتنفذين والسياسيين، بالرغم من تراجع الموجودات المالية وتزايد مخاطر التدهور المالي المحدقة.
لم يقتصر الامر عند هذا الحد، وإنما تجاوزه ليشمل اعطاء قروض ميسرة طويلة الامد لبعض السياسيين والمحظيين من مختلف الاطراف، وتعيينات للأزلام والمحاسيب في المصرف، واعطاء حوافز مالية تحت مسميات مختلفة، للابقاء على تظهير جيد لوضعية الحاكم، والسعي لتبييض صورته امام الرأي العام، والابقاء على دينامية تحضيره مرشحا مقبلا للرئاسة، بعد انتهاء مهامه في حاكمية المصرف المركزي.
لم تتطابق حسابات الحقل على حسابات البيدر، وادى تراكم الاخطاء والتجاوزات، إلى الانهيار الحاصل في تشرين الاول عام ٢٠١٩، ولم تنجح التدابير والتجاوزات في لجم الانحدار نحو الأسوأ، بفعل استمرار المعالجات الخاطئة، وآخرها موافقة الحاكم السابق على سياسة الدعم على السلع والمحروقات لمساعدة المواطنين المحتاجين، والتي كلفت الخزينة مبالغ مالية طائلة استنزفت قسما كبيراً من الاحتياطي النقدي الأجنبي، وذهب معظمها لجيوب كبار المحتكرين والمحظيين.
في الخلاصة، عندما تسلم الحاكم سلامة مهماته في العام ١٩٩٣ كان سعر صرف الدولار الأميركي الف وخمسمئة ليرة لبنانية فقط، وعندما انتهت ولايته وغادر المصرف المركزي بلغ سعر الصرف ما بين ماية وخمسين الف ليرة، او مئة وثلاثين الف ليرة، وتاركا أسوأ أزمة انهيار مالي مرت على لبنان بتاريخه. ومن خلال هذا الواقع بامكان اي مواطن عادي ان يحكم بموضوعية، عما حققه سلامة في ادارة السلطة النقدية، طوال وجوده في حاكمية المصرف، بعيداً عن المزايدت والتشفِّي والشماتة.