هل تؤجّل الانتخابات النيابية حتى إشعارٍ من واشنطن؟

كتبت نورما أبو زيد في “نداء الوطن”:

لم تكن الانتخابات في لبنان يومًا استحقاقًا ديمقراطيًا بمفهومه الناضج، بل كانت على الدوام، حفلة صياح بين ديوك الأحزاب، يتنازعون بموجبها الزعامة فوق مزابل الطوائف.

كلّ ديك يتوهّم أنّ الفجر لا يجرؤ على البزوغ إلاّ بإذن صياحه، ويصيحُ ملء منقاره: “كوكوكوكو… مزبلتي هي الأكبر!” فيردّ عليه خصمه من الطرف المقابل: “كوكوكوكو… مزبلتي هي الأكبر!” وهكذا تدور المعركة، لا لفرز خيارات سياسية صحية، بلّ لإعادة تدوير الفشل في صناديق الاقتراع. أمّا الناخبون، فخياراتهم لطالما كانت محصورة بين مزبلتين تختلفان في اللون فقط، لا في الشكل والرائحة.

هكذا، لم تكن الانتخابات النيابية أكثر من مباراة حزبية، تخوضها طوائف متناحرة تحت علم واحد، مشروعها تثبيت الزعامة على رقعة جغرافيا الطائفة، وكانت البرلمانات أشبه بفسيفساء هشة، لا يجمعها همّ الدولة، بل وهم الدولة.

أمّا اليوم، فلم تعد الانتخابات مجرّد تمرين ديمقراطي شكلي، يُدار على هامش الأزمات المستمرّة والمتراكمة، بلّ استحقاق مصيري يرسم هوية الدولة، ويُرسي ملامح الحكومة المقبلة، بلّ وربّما ملامح العهد الآتي. وبهذا المعنى، الاستحقاق المقبل، لن يكون مجرّد فصل إضافي من العبث اللبناني المعتاد، بل سيكون امتحانًا نهائيًا، تُكتب فيه هوية لبنان: هل هو “بلد ممانعة”، أم “ممانع للممانعة”، أم ربّما مجرّد ساحة يتنازعها الممانعون على مختلف طبقاتهم؟ ومن هنا، يُفهم سبب الخلاف المستعر على قانون الانتخاب، بين مؤيد لاقتراع المغتربين لـ 128 نائبًا، وآخر يريد تنخيب البطريق في القطب الجنوبي.

إذن، المعركة الأساسية هي على المادة 112 من قانون الانتخاب، التي تخصّص 6 مقاعد رمزية للمنتشرين. فيما أظهرت نتائج انتخابات 2022، أنّ انتخاب الانتشار لـ 128 نائبًا، جعل الظلّ الأميركي في ساحة النجمة أطول بكثير من عباءة الولي الفقيه. لذا، ليس مفاجئًا أن “حزب الله” من أكثر المتمسكين بالإبقاء على القانون بشكله الحالي، بل ومن الأشد حرصًا على إجراء الانتخابات في موعدها الدستوري.

يعلّل “حزب الله” رفضه لاقتراع المنتشرين كمواطنين مكتملي الهوية والحقوق، بأنّه مصنّف كمنظمة إرهابية في عدد من الدول، ما يحول دون قدرته على تنظيم حملات انتخابية، ويحرم مؤيديه في الخارج التصويت له دون خشية الملاحقة أو الطرد. تعليل منطقي، لكنه لا يلغي الحقيقة الثابتة: 27 على 27.

فأيًّا يكن شكل القانون الانتخابي، سيحصد “الثنائي” المقاعد الشيعية كاملة، من دون أن تسقط شعرة واحدة من رأسه بخلاف إرادته، لا سيّما وأنّ الطائفة اليوم، وأكثر من أيّ يوم مضى معبّأة خلفه. وبالتالي عينه ليست على صحنه المليء، بل على موائد الآخرين، التي تأخذ البلد إلى تغيير جذري فيما لو تجاوز المنتشرون قيد النواب الستة.

وإذا بات ثابتًا أنّ اقتراع المنتشرين لـ 128 نائبًا يطوّق “حزب الله” بأكثرية مقيّدة وغير مؤيّدة، يبقى السؤال المعلّق: لماذا “فشخ” التغييري نواف سلام فوق المادة 112؟ ولماذا قفز أيضًا فوق إمكانية أن تُعدّ الحكومة مشروع قانون تُرسله إلى مجلس النواب؟

يجيب مصدر مطّلع أنّ قفزة نوّاف سلام كانت تكتيكية، ولم تكن قفزة في الهواء. يؤكّد المصدر أنّ ما جرى كان ثمرة اتفاق مسبق بين نوّاف سلام ونبيه برّي، مبني على تسليم سلام بأنّ الانتخابات لن تُجرى في موعدها، وأنّ الدخول في اشتباك مع “الثنائي” في هذا التوقيت، هو مجرّد دفع فاتورة بلا أيّ مقابل سياسي مضمون. ومع ذلك، لم يتخلّ سلام عن تسجيل موقف ـ وإن ضمنياً واضح في مضمونه، على أنّه رفض لحصر اقتراع الانتشار بـ 6 نواب، وإشارة غير مباشرة إلى تمسّكه بصيغة الاقتراع الشامل لـ 128 نائبًا.

فالقول إنّ ثمّة أمورًا في قانون الانتخاب غير قابلة للتطبيق وتحتاج إلى مراسيم، لا يخلو من دلالة سياسية. إذ يُعدُّ موقفًا نقديًا من القانون النافذ، لصالح الإبقاء على اقتراع المنتشرين لـ 128 نائبًا، كما حصل في انتخابات 2018 و2022 دون عقبات تُذكر.

انطلاقًا من قفزة سلام، تقفز الأسئلة الكبرى: من يريد الانتخابات في موعدها الدستوري؟ ومن يفضّل تأجيلها تحت مسميات التعذّر التقني والسياسي والأمني؟ ومن يراهن على الوقت لا على الصناديق؟

يؤكّد المصدر أنّ “حزب الله” بخلاف سائر القوى السياسية، هو الوحيد الذي له مصلحة بحصول الانتخابات في موعدها الدستوري، أمّا باقي الأطراف، بما في ذلك رئيس الحكومة نوّاف سلام، فيميلون إلى خيار التأجيل، كلّ لحساباته.

حتّى واشنطن، كما ينقل المصدر، بدأت تراجع موقفها من التمسّك بالاستحقاق الانتخابي في موعده، بعدما أدركت أنّ الحكومة الحالية، تشكّل عنصر استقرار نسبي يصعب المجازفة به. فالمغامرة بصناديق اقتراع مفتوحة ولو نسبيًا على المجهول، قد تنتهي بخسارة نوّاف سلام من السراي، وهو ما لا يبدو مرغوبًا به الآن، إذ تبقى الأولوية في الحسابات الأميركية، لتثبيت قدمي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة في موقعيهما.

  • A-
  • A+

© Lebanese Citizens News. All rights reserved.