وُضع القانون الدولي الإنساني، الذي يُعرف بقانون الحرب، لحماية المدنيين والمنشآت المدنية خلال الحروب. وأُنشئت محاكم دولية لمقاضاة مجرمي الحرب.
صحيح أن هذا القانون لم يُحترم في كثير من الحروب، ولم يحاسب أحد على خرقه. لكن، منذ نحو عامين، وللمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية (1945)، تُرتكب جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بشكل متواصل ومكثّف.
وبدل أن يتراجع المُرتكِب أو ينكفئ، يوسّع مسرح جرائمه ويزيد من حدّة إجرامه ليطاول مزيداً من المدنيين، في ظل عجز الأمم المتحدة والمحاكم الدولية عن وقفه.
منذ نحو عام، أجرت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاتها، وأصدرت في 21 تشرين الثاني 2024 مذكّرات توقيف بحق رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو ووزير حربه السابق يوآف غالانت، لارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة المحاصَر.
في موازاة ذلك، صدرت ثلاثة أوامر عن محكمة العدل الدولية للكيان الإسرائيلي بالسماح بإدخال الطعام والدواء إلى غزة والتوقف عن استهداف المدنيين والمستشفيات. غير أن الكيان لم يوقف الحصار والقتل والتجويع والتعذيب والإخفاء القسري للبشر، بل وسّع جرائمه لتشمل دولاً أخرى، واستخدم أساليب جرمية أخرى تنتهك القوانين الدولية.
ففي مثل هذا اليوم من العام الماضي، فجّر العدو الإسرائيلي في لبنان عبوات كان قد زرعها في أجهزة اتصالات مدنية (بايجرز)، ما أسفر عن قتل وجرح أكثر من 3000 شخص من بينهم أطفال ونساء. وادّعى العدو الإسرائيلي يومها أن هذه العملية تستهدف حزب الله، وأن تفجيرات الـ«بايجرز» مشروعة بموجب القانون الدولي، وتدخل في إطار ممارسة «إسرائيل» حق الدفاع عن النفس.
بدت هذه الادّعاءات يومها متوقّعة لأنها صدرت عن المُرتكِب، كما بدا الترحيب الأميركي بالجريمة عادياً. لكن ما لم يكن متوقّعاً هو الصمت الدولي ولا مبالاة الهيئات القضائية الدولية ومنظمات حقوق الإنسان، علماً أن هذه التفجيرات جريمة حرب موصوفة وجريمة ضد الإنسانية لا مثيل لها في تاريخ الحروب. ونعرض في الآتي المراجع القانونية التي تثبت هذا التوصيف.
حظر استخدام الأفخاخ المتفجّرة
يتضمّن القانون الدولي «البروتوكول» الثاني لاتفاقية حظر أو تقييد استعمال أسلحة تقليدية معيّنة (1980 - عُدّل في 3 أيار 1996)، والذي يحظّر استعمال الألغام و«الأفخاخ المتفجّرة والأجهزة الأخرى». وورد في المادة 7 منه حرفياً: «يُحظر استخدام الأفخاخ المتفجّرة أو غيرها من الأجهزة على شكل أشياء محمولة تبدو غير ضارّة».
وجاء في الفقرة التالية: «يُحظر استخدام الأسلحة التي تنطبق عليها هذه المادة في أي مدينة أو بلدة أو قرية أو أي منطقة أخرى تضم تجمّعاً من المدنيين، ولا يدور فيها قتال بين القوات البرية، أو لا يبدو أنه وشيك، إلّا في الحالات التالية: (أ) إذا وُضعت على هدف عسكري أو على مقربة منه؛ أو (ب) إذا اتُّخذت تدابير لحماية المدنيين من آثارها، مثل وضع حراس إنذار، أو إصدار تحذيرات، أو بناء أسوار».
وينبغي التذكير أن الـ«بايجرز» أجهزة مدنية يستخدمها عادة الأطباء والطواقم الطبية، وهي «محمولة وتبدو غير ضارّة». وقد انفجر عدد كبير منها في العاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبية، وفي بلدات وقرى في الجنوب والبقاع، «تضم تجمعات من المدنيين ولا يدور فيها قتال بين القوات البرية». ولم توضع الأجهزة المفخّخة «على هدف عسكري»، لأن عدداً كبيراً من حامليها ليسوا عسكريين ولا يمكن عدّهم عسكريين. كما لم تُتخذ أي «تدابير لحماية المدنيين من آثارها»، إذ حدثت التفجيرات من دون إنذار مُسبق.
لا تمييز بين المدنيين والمقاتلين
انفجرت أجهزة الـ«بايجرز» في شقق سكنية، وفي الطرقات العامة والمستشفيات والمدارس وحضانات الأطفال، وفي الأسواق والمحالّ التجارية، وتحوّل البلد إلى مكان مرعب يمكن أن ينفجر فيه أي جهاز اتصال، علماً أن اتفاقيات جنيف، وبالأخص المادة 48 من البروتوكول الإضافي الأول، تنص على وجوب التمييز بشكل مستمر بين المدنيين والمقاتلين، وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، وذلك بتوجيه العمليات العسكرية نحو الأهداف العسكرية فقط، لحماية السكان المدنيين والأعيان المدنية. هذا المبدأ الأساسي تُحظر بموجبه الهجمات العشوائية، ويتطلّب من أطراف النزاع اتخاذ تدابير وقائية لتقليل الأضرار المحتملة على المدنيين.
وتحظر المادة 51 (5) (ب) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف «الهجمات العشوائية التي تُلحق أضراراً مفرطة بالمقاتلين وغير المقاتلين، أو المدنيين، أو الأعيان المدنية». فيما تُفهم هذه الهجمات على أنها قصف مناطق واسعة، أو «الهجمات التي لا تفرّق بين الأهداف العسكرية والمرافق المدنية، أو التي تستخدم وسائل هجومية لا تستطيع التحكّم في وجهتها».
لم يميّز العدو الإسرائيلي بين المدنيين والعسكريين في جريمة الـ«بايجرز»، رغم أن التكنولوجيا الاستخباراتية الإسرائيلية للتنصت والرصد متطوّرة إلى حدّ كبير يتيح لها مسبقاً تحديد الإصابات التي يمكن أن تنجم عن التفجير. وبالتالي، يُعدّ الهجوم الإسرائيلي انتهاكاً جسيماً للقانون الدولي كما جاء في المادة 85 من «البروتوكول»، والتي تنص على أن «شنّ هجوم عشوائي، يصيب السكان المدنيين أو الأعيان المدنية عن معرفة بأن مثل هذا الهجوم يسبّب خسائر بالغة في الأرواح، أو إصابات بالأشخاص المدنيين أو أضراراً للأعيان المدنية»، يُعد «بمثابة انتهاكات جسيمة لهذا البروتوكول إذا اقتُرفت عن عمد مخالفة للنصوص الخاصة بها في هذا البروتوكول، وسبّبت وفاة أو أذى بالغاً بالجسد أو بالصحة».
وظيفة المحكمة الجنائية الدولية المعطّلة
يعرّف نظام روما الأساسي (نظام المحكمة الجنائية الدولية) جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. فبموجب المادة الثامنة، تعني جرائم الحرب «الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرّخة في 12 آب 1949، أي فعل من الأفعال التالية ضد الأشخاص، أو الممتلكات الذين تحميهم أحكام اتفاقية جنيف ذات الصلة: القتل العمد وتعمّد إحداث معاناة شديدة أو إلحاق أذى خطير بالجسم أو بالصحة (...)».
و«يكون للمحكمة اختصاص في ما يتعلق بجرائم الحرب، ولا سيما عندما تُرتكب في إطار خطة أو سياسة عامة، أو في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق لهذه الجرائم». ولا شك أن جريمة تفجير الـ«بايجرز» ارتُكبت في إطار خطة إسرائيلية لترهيب الناس وتخويفهم من التفوّق التكنولوجي والاستخباري الإسرائيلي، من خلال إحداث أذى جسدي مؤلم وإعاقات دائمة في اليدين والوجه والعينين.
وبموجب المادة 13 من نظام روما، للمحكمة الجنائية الدولية أن تمارس اختصاصها في ما يتعلّق بجرائم الحرب في ثلاث حالات:
أولاً، إذا أحالت دولة (طرف) إلى المدّعي العام حالة يبدو فيها أن جريمة حرب قد ارتُكبت؛ ثانياً، إذا أحال مجلس الأمن، متصرّفاً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة حرب قد ارتُكبت؛ ثالثاً إذا كان المدّعي العام قد بدأ بمباشرة تحقيق في ما يتعلق بجريمة حرب.
وبالتالي، إن عدم توقيع لبنان على نظام روما الأساسي لا يمنع المحكمة الجنائية الدولية من المباشرة في التحقيق. لكن لا الدولة اللبنانية طلبت ذلك، ولا مجلس الأمن ناقشه ولا المدّعي العام باشر فيه.
ويعني ذلك أن دور المحكمة الجنائية الدولية في محاسبة الكيان الإسرائيلي بسبب ارتكابه جريمة حرب جسيمة معطّل، وهذا يؤكّد إفلات كيان العدو للمرة الألف من العقاب.