ما إن انتهت قمّة الدوحة الإستثنائية حتى باشر الجيش الإسرائيلي بدفع قواته البرية في اتجاه الأحياء السكنية لمدينة غزة. فالواضح أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو باشر بتنفيذ الفصل الأخير من مسار الحرب التدميرية على قطاع غزة وتحت أعذار شتى. صحيح أنّه أعلن مرّات عدة أنّه يهدف لتفكيك البنية العسكرية لحركة «حماس»، لكنه في الواقع يسعى لتهجير الفلسطينيين دفعة واحدة من القطاع، وذلك عبر استغلال ما يعتبره فرصة تاريخية لا تتكرّر، وصولاً إلى إزالة «كابوس غزة»، والذي كان يقضّ مضاجع الزعماء والمسؤولين الإسرائيليين، وهو ما جعل إسحق رابين يقول: «ليتني أستفيق يوماً ويكون البحر قد ابتلع غزة».
ومن هذا المنطلق وجد نتنياهو، ومعه اليمين الإسرائيلي، أنّ وقف الحرب من دون الذهاب إلى تحقيق «حلول» جذرية سيكون خطأ جسيماً جداً. ومفهوم اليمين الإسرائيلي هنا يتلخّص بدفع الفلسطينيين خارج أرضهم في قطاع غزة، والحرص على عدم القبول بأي قرار بوقف لإطلاق النار. ذلك أنّ العودة إلى الحرب ستصبح صعبة. وطالما أنّ النار لا تزال مشتعلة، والظروف الأميركية مؤاتية جداً، فإنّ الإندفاع في إنجاز الفصل الأخير من الحرب المفتوحة يصبح ضرورة ملحّة. صحيحٌ أنّ ردود الفعل الدولية باتت سلبية على إسرائيل، لكن ما يهمّ هو الضوء الأخضر الأميركي. أما إعادة إصلاح صورة إسرائيل دولياً، فيمكن تحقيق ذلك لاحقاً، لكن بعد إنجاز التغيير الكامل المطلوب الآن.
في اختصار، فإنّ المرحلة الحالية هي مرحلة الحسم بالنسبة إلى نتنياهو، ودونالد ترامب لا يعارض ذلك. وعلى هذا الأساس تعمل الآلة العسكرية الإسرائيلية على تدمير كل مظاهر العيش والحياة في مدينة غزة، ودفع الأهالي إلى النزوح. وتخطّط الحكومة الإسرائيلية لأن يكون هذا النزوح نهائياً. ووفق المعلومات المتداولة على نطاق ضيّق في الأروقة الديبلوماسية، فإنّ وزارة الدفاع الإسرائيلية أبلغت إلى البنتاغون أنّ مدة العملية لن تطول كما يُشاع في الإعلام. ففيما تحدثت وسائل إعلامية عن أشهر عدة، فإنّ وزارة الدفاع الإسرائيلية تحدثت عن مدة قصيرة لا تتجاوز الأسابيع المعدودة لإتمام الأهداف الإسرائيلية
في المقابل، فإنّ واشنطن المتفاهمة مع تل أبيب على إعادة ترتيب المنطقة، تعمل على قطع كل الروابط الإيرانية مع الساحات العربية. وهي أشارت مرّات عدة إلى أنّها تسعى للقضاء على المجموعات العسكرية المرتبطة بإيران، مثل «حماس» و«حزب الله» والميليشيات العراقية، إضافة إلى محاصرة الحوثيين. ومن هذه الزاوية تفسّر الأوساط الديبلوماسية هدف الضربة الإسرائيلية التي طاولت قطر. فهذه الضربة التي نالت موافقة البيت الأبيض، على رغم من النفي الأميركي العلني، كانت تهدف للقول إنّ لا خطوط حُمراً تقف في وجه القضاء على القوى العسكرية المتحالفة مع إيران. لكن وقع الضربة أحدث صدمة هائلة، ليس فقط على قطر، بل على جميع دول الخليج. فالغطاء الأمني المتين الذي كانت تؤمّنه الولايات المتحدة الأميركية تبدّد فجأة، وشعرت كل دولة خليجية بأنّها أصبحت مكشوفة أمنياً. ومن هذا المنطلق تمّ التداعي إلى مؤتمر الدوحة. لكن واشنطن تدرك جيداً أنّ الظروف الدولية تعمل لمصلحتها، والسبب أنّ دولتين فقط تهتمان بساحات النفوذ الدولية، ويمكن أن تؤمّنا لجوءاً طارئاً وآمناً إلى حدّ ما، وهما روسيا والصين. ولكن روسيا غارقة في مشكلاتها الكبرى في أوكرانيا وأوروبا. كما أنّ اقتصادها يعاني بشدة، ما يمنعها من التورط في تحدّي واشنطن في الخليج. ومثلاً هذا ما دفعها إلى الإنكفاء عن المتغيّرات الكبرى التي طاولت سوريا. كذلك فإنّ الصين تدرس خطواتها بنحو بطيء جداً وحذر. وعلى رغم من المنافسة الإقتصادية والتجارية القائمة بين بكين وواشنطن، إلّا أنّ القيادة الصينية تحاذر إثارة واشنطن عبر مساحات نفوذها. وأبرز دليل على ذلك عدم إقتراب بكين من تايوان على رغم من حساسية الموضوع بالنسبة اليها. في اختصار، فإنّ الظروف الدولية تلعب لمصلحة واشنطن في هذه الفترة. من هنا جاءت مقررات قمة الدوحة تحذيرية وليس تنفيذية. وفي الوقت نفسه جاء قصف قطر بمثابة اختبار إسرائيلي وأميركي لردود الفعل الخليجية. وهو ما يدفع إلى الإستنتاج بأنّ الهوامش باتت أضيق في هذه المرحلة والتي تُعتبر مرحلة الحسم
والضغوط لا تقتصر على دول الخليج وحدها. ففي العراق تطورات لا تقل إثارة، حجبها دخان القصف الهستيري في غزة والمفاجئ على الدوحة. فخلال الأيام الماضية أرسلت الإدارة الأميركية عبر سفارتها في بغداد رسالة إلى الحكومة العراقية حذّرتها فيها من احتمال استهداف إسرائيل مكاتب ومقار حركة «حماس» والحوثيين الموجودة في بغداد وتحت حماية المجموعات الموالية لإيران. وأشار التحذير الأميركي إلى أنّ هذه المكاتب تشهد نشاطات دائمة وحركة مستمرة، ما قد يدفع إسرائيل إلى قصفها عبر الجو. وفي موازاة ذلك عمدت واشنطن إلى تقليص حجم مساعداتها السنوية لوزارة الدفاع العراقية من 189 مليون دولار لسنة 2025 إلى 48 مليون دولار للسنة المقبلة. وفي المقابل عمدت الى رفع قيمة مساعداتها للقوات الكردية في كردستان العراق لتصبح 61 مليون دولار. طبعاً، فإنّ أهمية الخطوة هي بالرسائل التي حملتها، أكثر منها قيمتها المادية. وما من شك أنّ هذه الرسائل أثارت إمتعاض القوى والفصائل العراقية الموالية لإيران، خصوصاً أنّه كان قد سبق ذلك تسليم واشنطن للقوات الكردية أسلحة متطورة شملت مدافع ثقيلة وذكية بعيدة المدى، بالإضافة إلى منح عسكرية أخرى. وتولّت أوساط ديبلوماسية معنية التسريب بأنّ خطوات واشنطن هي بمثابة رسائل تحذير، وتأتي رداً على عدم التزام بغداد بفك ارتباطها مع طهران. ويأتي كل ذلك قبل الإنطلاق في الإنتخابات النيابية التي يستعد العراق لها.
وأما على الصعيد اللبناني، فلا تبدو الصورة أفضل. فالمساعدات التي طال انتظار لبنان لها لا تزال في علم الغيب. لا بل إنّ التسريبات الديبلوماسية تؤكّد أنّ لبنان لن ينال دولاراً واحداً طالما أنّ «حزب الله» لا يزال يحتفظ بتركيبته العسكرية. وعلى رغم من الإشارات المرنة التي ظهرت إثر مقررات جلسة الخامس من أيلول، خصوصاً لجهة إمساك القوى الأمنية الشرعية وحدها للحركة العسكرية على كافة الطرق، إلّا أنّ الأوساط الأميركية تتحدث عن رهان إيراني على الوقت في لبنان لا على الإلتزام بالحلول المطروحة. وهي تعطي مثالاً على ذلك شحنات الأسلحة التي كان يتمّ تهريبها من سوريا إلى لبنان. وتضيف هذه الأوساط بشيء من التهديد، أنّ عدم تفهم لبنان أنّ المرحلة هي مرحلة «الحسم» سيعني أنّ واشنطن ستترك لإسرائيل حرية الحركة والمعالجة بالطرق الحربية. وهي تشير في الوقت عينه إلى التمركز الجديد الذي تقوم به القوات الإسرائيلية في المناطق السورية المطلة على البقاع اللبناني، وأنّه يؤشر إلى شيء ما مستقبلاً.
لا بل إنّ هذه الأوساط لا تستبعد تجدد الحرب الجوية بين إسرائيل وإيران، خصوصاً أنّ الملف النووي لا يشهد أي تقدّم ملموس وحقيقي. وتشير الأوساط نفسها إلى قيام المصانع العسكرية الإسرائيلية بتحديث أنظمة الدفاع الجوي، وإلى إنتاج كميات كبيرة من الصواريخ الإعتراضية، ما يؤشر إلى أنّ التحضيرات الإسرائيلية قائمة وبوتيرة سريعة استعداداً لحرب جديدة. كذلك فإنّ إيران تتحرك بسرعة أيضاً لإعادة إنتاج صواريخ بالستية وفرط صوتية، وهو السلاح الذي تفوقت به على إسرائيل إبان المواجهة الأخيرة.
هي مرحلة الحسم التي باشر نتنياهو بتنفيذها من غزة بمباركة إدارة ترامب، والتي قد تتمدّد في اتجاه لبنان وربما العراق وإيران نفسها. إلّا إذا أيقن الجميع عمق الهوة التي يتّجهون إليها بخطى ثابتة وسريعة