تمرّ أخبار ضبط كميات من الأدوية المزوّرة والفاسدة والمهرّبة، ثقيلة جداً على أسماع المواطنين، لاسيّما المرضى. ويزيد الثقل كلّما كان المرض مزمناً والدواء غير متوفّر بالكميات المطلوبة أو يباع بأسعار خيالية. هي صدمة اللحظة الأولى لسماع الخبر، وبعدها ننتبه إلى أنّ ما سمعناه ليس بجديد، بل اسطوانة تتكرّر من حين لآخر، خصوصاً بعد محطّات سياسية واقتصادية وأمنية عامّة، كالأزمة الاقتصادية والانتخابات النيابية أو تشكيل حكومة جديدة أو أزمة اقتصادية.
وتكرار الحالات لعقود وتأكيد الجهات الرسمية وجود الفساد وصعوبة وقفه، يعني أنّ مافيات الدواء أقوى من الدولة، وتتحكّم بما هو أبعد من السوق، فمسار الدواء المهرَّب، يمتدّ من المرافق العامة وصولاً إلى الصيدليات، فمَن يحمي هذا المسار وكيف؟.
محاولات غير كافية
تسبق قضية الفساد في قطاع الأدوية الأزمة الاقتصادية التي اشتعلت قبل نحو 6 سنوات، أي أنّها لم ترتبط فقط باستفادة تجّار الدواء من أموال الدعم التي شجّعَت تراكم الدواء في المستودعات وحجبه عن المرضى، إلاّ الذين يدفعون بأسعار السوق السوداء. لكنّ وزارة الصحة حاولت معالجة القضية من خلال مراقبة الدواء في المستودعات والصيدليات، لكنها فشلت في منع الاستغلال. أمّا الاعتماد على المكننة لمتابعة مسار الدواء، من خلال تطبيقات تتبّع الدواء، فلم تنجح، إذ أنّ نظام تتبّع الدواء Meditrack ، لم يعش طويلاً، وكان من المفترض به “التحديد الدقيق للمخزون الموجود من الدواء وضمان إيصاله للمريض”، فنقابة الصيادلة اعترضت عليه، وحصلت على قرار بإبطاله من مجلس شورى الدولة.
بقي القطاع مشرَّعاً أمام مافيات الدواء، وعادت إلى الواجهة عمليات كشف شبكات تتاجر بالدواء، ومن بينها زوجة أحد الضبّاط وشقيق نائب في البرلمان، فضلاً عن مجموعة أشخاص تم توقيفهم في برمّانا، يهرّبون إلى لبنان أدوية من تركيا ومصر، وأدّى توقيف هؤلاء إلى فتح تحقيقات مع نحو 50 صيدلانياً و60 تاجر أدوية. بالإضافة إلى شبكة لتهريب الأدوية عبر مرفأ طرابلس.
حجم أعمال التهريب وتداخل الشبكات واستمرار تجهيل الداعمين والشركات، يُسقِط من الحسابات قدرة الحلول الجزئية التي تحاول وزارة الصحة اعتمادها، ومنها نظام تتبّع الدواء “لأنّه يراقب حركة الدواء المرخّص من وزارة الصحة، فيما المشكلة الأساسية هي في الأدوية غير المسجّلة في الوزارة لكنّها موجودة في السوق”، وفق ما أكّده رئيس “الهيئة الوطنية الصحية الاجتماعية – الصحة حق وكرامة” النائب السابق اسماعيل سكرية، الذي رأى في حديث لـ”المدن” أنّ النظام الصحيح هو “أجهزة الرقابة. ووزارة الصحة لديها جهاز رقابي، والتفتيش المركزي يمكنه القيام بدوره، فضلاً عن ضرورة تفعيل المختبر الدوائي المركزي”. وعبر هذه القنوات “يمكن ضبط تهريب الدواء ودخول الأدوية الفاسدة”. أمّا الوسائل الأخرى، كالتطبيقات فهي “جزء بسيط جداً من الحل، ولا يمكن الاعتماد عليها”.
دخول الأدوية المهرّبة
مع أهمية تطبيق أي نظام لتتبّع حركة الدواء في لبنان، إلا أنّ المسألة الأساسية بنظر رئيس لجنة الصحة النيابية النائب بلال عبد الله “هي الخطوات والإجراءات المطلوبة لمنع دخول الدواء المهرَّب والمزوَّر”. وهذا الأمر “ليس من مسؤولية وزارة الصحة وحدها. فالأدوية تدخل من المرافىء والمطار والمعابر غير الشرعية، لذلك هي مسؤولية مختلف الوزارات، والأجهزة الأمنية”. وفي حديث لـ”المدن” كشفَ عبد الله أنّ هناك “بعض الجمعيات تأتي بالدواء من الخارج، بلا رقابة، وهناك من يبيع الدواء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى بعض الصيدليات المتورّطة”؛ ولذلك فإنّ المسألة متشعّبة.
واستند الصيادلة إلى هذا التشعّب لتبرير رفضهم لأي نظام تتبّع لحركة الدواء، على غرار نظام Meditrack. فأكّد عضو مجلس نقابة الصيادلة سهيل غريب، أنّ هذا النظام “لا يتبع حركة الأدوية المدعومة فقط، بل كل الأدوية، وهذا ما لا يقبله الصيادلة، فنحن لسنا في بلد بوليسي. كما أنّ مهنة الصيدلة لها وجه تجاري إلى جانب الوجه الإنساني، فنحن نبيع الأدوية لنربح ونعيش”. وانطلاقاً من الوجه التجاري، رأى غريب في حديث لـ”المدن” أنّ أنظمة التتبّع “تلزم الصيدلاني بإعطاء الدواء لأي زبون يدخل الصيدلية، حتى لو من منطقة أخرى، إذ تستطيع الوزارة تحديد مكان الدواء وإرشاد الزبون إليه، وبالتالي لا يستطيع الصيدلاني ضمان إبقاء بعض الأدوية لزبائنه الذين يطمئنّون إلى أنّ دواءهم موجود في الصيدلية التي اعتادوا شراء الدواء منها”.
ولا يعتبر غريب أنّ هذه العملية هي احتكار للأدوية لأنّ “الصيدلاني يريد بيع الدواء، لكن يحق له ضمان تأمين الدواء للمرضى الذين اعتادوا شراءه من الصيدلية”. وعليه، فإنّ الرقابة على قطاع الأدوية بنظر غريب “يمكن أن يطبَّق من خلال التفتيش، سواء في وزارة الصحة أو نقابة الصيادلة. والتفتيش يدخل إلى الصيدلية ويلاحق الصيدلاني إذا كان لديه أدوية مزوّرة أو مهرّبة أو يخزّنها بهدف الاحتكار”.
وبالتوازي، ذكَّرَ غريب بأنّ “هناك مئات الأدوية كانت تدخل إلى لبنان بإمضاء وزير الصحة السابق فراس الأبيض، وبدون رقابة، بحجّة الاستيراد المستعجل. وهنا، تبرز أهمية اللجنة العلمية في وزارة الصحة التي تراقب الأدوية وتوافق على دخولها. فهل من المعقول إدخال ادوية بمجرّد قرار وموافقة من الوزير بلا أي رقابة؟”. علماً أنّ الوزير الحالي أوقَفَ هذه الآلية.
امتحان للحكومة
بين رفض بعض الأنظمة وضرورة تطوير طرق الرقابة، يبقى الثابت أنّه من الواجب على الدولة ضبط عملية تهريب الأدوية وتزويرها، بصورة مستدامة “وليس من خلال عمليات كشفٍ أشبه بذرّ الرماد في العيون، إذ أنّ ملفّ التزوير والفساد متراكم منذ سنوات. علماً أنّ كشف أي عملية تهريب او تزوير، هو أمرّ مرحَّب به وضروري”، على حدّ تعبير سكرية. وما يزيد الوضع سوءاً، هو “تأثير الأزمة الاقتصادية على عناصر أجهزة الرقابة الذين باتوا عرضة للاختراق المادي، مما سهَّلَ التواطؤ مع المهرّبين”. ولأنّ العهد الحالي يوصف بأنّه عهد إصلاحي، جدّد سكرية المطالبة بـ”تفعيل المختبر المركزي وإعادة تقييم كافة أدوية السوق والتي سيشطب قرابة نصفها حرصاً على صحة الناس، وهو ما يحفظ ما تبقى من مصداقية الوعود الإصلاحيّة”. ولذلك، فإنّ “الدولة اليوم أمام امتحان لإثبات مصداقيتها في الإصلاح. والدواء من أهم الملفات التي يمكن العمل عليها”.
من ناحيته، أكّد رضا موسوي المستشار الإعلامي لوزير الصحة ركان ناصر الدين، أنّ “الوزارة اتخذت صفة الادعاء على كل من يثبت قيامه بالتهريب والتزوير”. وفي حديث لـ”المدن” انطلق موسوي “ممّا أكّده الوزير مراراً، حيال ملاحقة كلّ المتورّطين”. وذكَّرَ بأنّ “هناك الكثير من المهام ليست من مسؤولية الوزارة، فهي لا تستطيع مراقبة المطار والمرافىء، فالأدوية المهرَّبة لا تأتي إلى الوزارة وتنطلق منها إلى السوق كي تكون الوزارة مسؤولة عنها”.
وهنا، اعتبر النائب بلال عبد الله أنّ الخطوة الإيجابية التي يمكن الركون إليها اليوم هي “التواصل بين كل الوزارات والأجهزة المعنية بهذا الملف، وهو ما حصل في اجتماع يوم أمس”. إذ حضرَ الاجتماع وزير الصحة ووزير العدل وممثّلون عن قيادة الجيش ومدير عام الجمارك والنقابات المعنية.
خلاصة القول، لا يزال سوق الدواء متفلتاً من الرقابة، والمستفيدون منه يعلمون أنّ رقابة الدولة لا تطالهم. أمّا وقد أعلنت الإدارات والوزارات المعنية أنّها أمام مرحلة جديدة، فعلينا انتظار النتائج التي يراهن وزير الصحة أنّها ستكون إيجابية نظراً لـ”تفعيل دور اللجنة الفنية في وزارة الصحة، والتوجه إلى مكننة هذا القطاع. والتعاون الكامل مع الأجهزة الأمنية والجمارك مع التفتيش الصيدلي، وإضافة عدد أعضاء التفتيش الصيدلي”.